الردع الإيراني يخلط أوراق واشنطن ويُربك تل أبيب… وقطر تسحب فتيل الحرب
إيران… من صواريخ الظل إلى مراكز القرار: الشرق الأوسط يعيد تشكيل موازينه
بقلم/ نسيمة شرلاح
من حرب قصيرة إلى تغيّرات طويلة المدى: الشرق الأوسط أمام معادلة جديدة
في منطقة لم تعرف استراحة حقيقية منذ عقود، كانت الحرب الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني أكثر من مجرد مواجهة عسكرية؛ كانت لحظة كاشفة لتحولات استراتيجية تُعيد رسم خريطة النفوذ الإقليمي.
الضربات الإيرانية لم تكن مجرد صواريخ؛ بل كانت رسائل موجَّهة إلى قلب المشروع الصهيوني، وإلى العصب الأمريكي في المنطقة. وبينما كانت طائرات “إف-35” تحلّق فوق غزة والجنوب اللبناني، كانت طهران تُحرّك المشهد من الخلف، بحنكة تراكمت عبر سنوات من المواجهات غير المعلنة، وأذرع عسكرية ممتدة من اليمن حتى الجولان.
قوة إيران: الصعود عبر المواجهة
لأول مرة، تجد تل أبيب نفسها في موقع الدفاع، رغم أنها هي من أطلق شرارة الحرب. لكن المفاجأة جاءت من حيث لم تُحسَب: الرد الإيراني كان فوريًا، مؤلمًا، ومتعدد الجبهات. من الضاحية الجنوبية إلى صنعاء، ومن البوكمال إلى غزة، كانت الجغرافيا تنطق بإيقاع طهران.
لم يكن الهدف تحقيق نصر ميداني تقليدي، بل فرض قواعد اشتباك جديدة تعترف بمكانة إيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها. الكيان الصهيوني، رغم كل تفوقه التكنولوجي، واجه تهديدًا وجوديًا رمزيًا: العجز عن حسم المعركة، وفقدان الثقة الداخلية بجدوى “القبة الحديدية” التي تحوّلت إلى قفص هش تحت وابل الصواريخ الدقيقة.
أما واشنطن، فقد رأت بعينها ما لم تكن تريد الاعتراف به: أي مواجهة مفتوحة مع إيران تعني إشعال حريق في كل الشرق الأوسط، بدءًا من مضيق هرمز، وصولًا إلى قواعدها في العراق وسوريا. خسائر الحلفاء، وارتباك الأسواق، وضغوط الداخل الأمريكي، دفعتها إلى التخلي مؤقتًا عن نغمة “الردع” لصالح لغة “احتواء التصعيد”.
دور قطر: الهاتف أقوى من المدفع
في اللحظة التي كان الجميع يتهيّأ فيها لمواجهة شاملة، كانت قطر تمسك بخيوط معقّدة بين طهران وواشنطن وتل أبيب. ومن قلب صمت إعلامي محسوب، خرج بيان وقف إطلاق النار بتوقيع غير مباشر من الدوحة.
ليست هذه أول وساطة قطرية، لكنها قد تكون الأهم. فأن تَنتزع دولة صغيرة، جغرافياً، قرار تهدئة من بين دخان الصواريخ، فهذا يعكس حجم الثقة الدولية بها، ويُكرّس دورها كمحور سياسي في زمن تتصدّع فيه التحالفات.
الارتدادات: ما بعد الهدوء القلق
الاقتصاد أول من ارتجف. أسعار النفط قفزت إلى مستويات مقلقة، ثم تراجعت مع إعلان الهدنة، لكن البورصات بقيت مترنحة، تتنفس تحت الضغط. أوروبا حمدت الله على تفادي شتاء بلا غاز، وواشنطن بدأت إعادة تقييم تكلفة دعم الكيان الصهيوني عسكريًا دون مردود استراتيجي حقيقي.
أما في الداخل الإيراني، فالسردية المنتصرة سادت: “نحن من أوقفنا العدوان، نحن من رسمنا الردع”. هذه رواية ستستثمرها طهران سياسيًا داخليًا وخارجيًا، لتعزيز شرعيتها وسط تحديات اقتصادية خانقة. ومن جانب آخر، كانت رسالتها للعرب واضحة: من يريد التوازن في الشرق الأوسط، لا يمكنه تجاوز إيران.
اللاعبون الإقليميون: الجزائر تراقب… والبقية تصطف
الجزائر، التي استعادت بعض زخمها العربي، تمسكت بموقف مبدئي داعم لفلسطين ورافض للعدوان، دون الانخراط في تحالفات قد تُفقدها استقلالية القرار. وفي المقابل، ساد الصمت في عواصم عربية أخرى، فضّلت الترقب على اتخاذ موقف قد يُغضب الحليف الأمريكي أو الإسرائيلي.
هل انتهت الحرب فعلًا؟
المعركة ربما صمتت، لكنّ الصراع لم يُغلق صفحته بعد. السؤال الحقيقي الآن ليس متى تبدأ الحرب القادمة، بل كيف سيتم هندسة “التعايش القلق” بين قوة إيرانية صاعدة، وكيان صهيوني مرتبك، وتحالفات دولية أعادت حساباتها.
ربما نكون أمام ولادة جديدة لنظام إقليمي مختلف، تكون فيه موازين القوة موزعة لا محتكرة، والدبلوماسية لا تقل وزنًا عن السلاح، لكن ما هو مؤكد، أن الشرق الأوسط بعد هذه الحرب، لن يشبه ما قبلها.