تصعيد اقتصادي غير مسبوق بين البرازيل وأمريكا: لولا دا سيلفا يقطع العلاقات التجارية ويعلن التوجه شرقًا
العالم نحو تعددية قطبية اقتصادية
في خطوة مفاجئة وذات تداعيات اقتصادية عميقة، أعلن الرئيس البرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا قطع العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة، ردًا على فرض واشنطن رسومًا جمركية بنسبة 50٪ على عدد من السلع البرازيلية. ووصف الرئيس البرازيلي القرار الأميركي بأنه “عدوان اقتصادي سافر”، مؤكدًا أن بلاده “ليست بحاجة إلى التجارة مع أمريكا” ومشدّدًا على توجه برازيلي استراتيجي نحو تنويع الشراكات، خاصة مع الصين ودول الجنوب العالمي.
هذا التصعيد غير المسبوق يُعد علامة فارقة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، والتي لطالما اتسمت بالتكامل والتوتر المتبادل في آنٍ معًا، لكنه يفتح كذلك الباب أمام تحوّلات عميقة في المشهد الجيو-اقتصادي العالمي.
بقلم/ نسيمة شرلاح
رسوم أمريكية… ورد فعل برازيلي قوي
القرار الأميركي بفرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات البرازيلية، خاصة في قطاعات المعادن والسلع الزراعية، جاء في سياق ما وصفته وزارة التجارة الأميركية بـ”حماية الصناعات الوطنية من المنافسة غير العادلة”. لكنّ رد الفعل البرازيلي فاق كل التوقعات.
الرئيس لولا، المعروف بخطابه اليساري واستقلاله السياسي في مواجهة الهيمنة الغربية، رد بإجراء أكثر حدة: قطع العلاقات التجارية الرسمية مع الولايات المتحدة، والتوجّه نحو استراتيجية اقتصادية “تحررية” تستهدف، حسب وصفه، “إنهاء التبعية للمركز المالي العالمي الذي تهيمن عليه واشنطن”.
—
التحول نحو الصين والتخلي التدريجي عن الدولار
أكثر ما أثار الانتباه في خطاب لولا هو الإعلان الصريح عن التخلّي التدريجي عن الدولار الأميركي في التجارة الخارجية، ضمن توجه أوسع نحو ما أسماه بـ”قطع الوريد النقدي للدجّال الأكبر” — في إشارة رمزية إلى الهيمنة الاقتصادية الأمريكية من خلال الدولار.
هذا التوجه ليس جديدًا كليًا. فقد شهدنا في السنوات الأخيرة محاولات من دول مجموعة البريكس – وعلى رأسها البرازيل والصين – لإنشاء بدائل لنظام الدفع بالدولار، سواء من خلال التبادل بالعملات المحلية أو اقتراحات إطلاق عملة موحدة ضمن التكتل.
لكن التصعيد الحالي يعطي هذا المشروع زخمًا حقيقيًا ويفرض على الأسواق الناشئة النظر بجدية في فك الارتباط الجزئي مع النظام المالي العالمي التقليدي.
الانعكاسات الاقتصادية المتوقعة
قطع العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة يحمل تكلفة اقتصادية فورية على الجانبين. فالبرازيل تعتمد على السوق الأميركية لتصريف جزء لا بأس به من صادراتها الزراعية والمعدنية، فيما تعتمد شركات أميركية على خامات وأسواق البرازيل.
لكن يبدو أن الحكومة البرازيلية تراهن على الصين كشريك بديل. وبالفعل، سجّلت التجارة الثنائية بين بكين وبرازيليا أرقامًا قياسية في السنوات الأخيرة، مما يجعل هذا الرهان قابلًا للتحقق – وإن كان على حساب مخاطر الاعتماد المفرط على شريك واحد.
في المقابل، الولايات المتحدة قد تواجه أيضًا تداعيات، لا سيما في سلاسل التوريد الزراعية والمعادن النادرة، إلى جانب ما قد يشكله هذا القرار من سابقة لدول أخرى قد تحذو حذو البرازيل.
البرازيل بين الاستقلال والسيادة الاقتصادية
هذا التحوّل يُعيد إلى الواجهة مفهوم السيادة الاقتصادية الذي لطالما شكّل محور خطاب اليسار في أمريكا اللاتينية. لكن تطبيق هذه السيادة في واقع عالمي مترابط ومعقّد ليس أمرًا سهلاً، ويستوجب إعادة هندسة اقتصادية عميقة تتطلب وقتًا وتحمّل تبعات قصيرة الأمد.
التحدي الأكبر الذي سيواجه لولا هو ضمان عدم تأثر الداخل البرازيلي – خاصة الشرائح الفقيرة – بهذه التحولات، وتجنّب التضخم أو انخفاض قيمة الريـال نتيجة التخلي عن الدولار.
العالم نحو تعددية قطبية اقتصادية؟
ما يحدث اليوم بين البرازيل والولايات المتحدة هو أكثر من خلاف تجاري. إنه تجلٍ لتحوّل بنيوي في النظام الدولي، حيث تسعى قوى الجنوب – مثل البرازيل، الصين، الهند وروسيا – إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، اقتصاديًا وماليًا.
هل نحن أمام بداية مرحلة جديدة من فك الارتباط عن “القطب الأوحد”؟ أم أن الديناميكيات العالمية ستفرض في النهاية إعادة تطبيع العلاقات ضمن شروط جديدة؟
الأشهر القادمة كفيلة بالإجابة، لكن المؤكد أن ما بعد يوليو 2025 لن يكون كما قبله في العلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب.