رسوم ترامب وسياسات النفط: تحولات جيوسياسية تعيد تشكيل خريطة الطاقة العالمية

في وقتٍ بدأت فيه المفاوضات الأميركية الروسية بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا تأخذ منحى أكثر جدية، تبرز تساؤلات ملحة حول مستقبل العقوبات الأميركية على النفط الروسي، وتأثير ذلك على أسواق الطاقة العالمية، والعلاقات الاقتصادية مع شركاء رئيسيين مثل الهند والبرازيل.

ورغم الضغط المتزايد من بعض الجهات داخل الولايات المتحدة لتشديد الخناق الاقتصادي على موسكو عبر أدوات الطاقة، فإن عددًا من خبراء النفط والطاقة العالميين يرون أن واشنطن ليست بصدد المضي قدمًا في فرض مزيد من العقوبات على المدى القريب، خاصة مع بدء تحركات دبلوماسية بين القوى الكبرى لإنهاء النزاع المستمر منذ عام 2022.

هل تخفف واشنطن العقوبات؟

يرى أرن لوهمان راسموسن، كبير المحللين ورئيس قسم الأبحاث في مؤسسة Global Risk Management، أن أسواق النفط ما تزال تحت ضغط خطط العقوبات الأميركية المحتملة على النفط الروسي. لكنه يؤكد أن هذه العقوبات قد يتم تخفيفها مؤقتًا كجزء من مناورات التفاوض، رغم إمكانية إعادة تفعيلها خلال أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع إذا دعت الحاجة للضغط على موسكو.

وفي تصريح لافت، أشار راسموسن إلى أن فرض رسوم جمركية إضافية على الصين – بشكل مماثل لما فُرض على الهند – يبدو مستبعدًا في المرحلة الراهنة، مما يُظهر حدود التصعيد الأميركي، ورغبتها في الحفاظ على توازن المصالح الاقتصادية والجيوسياسية في آنٍ واحد.

الهند والبرازيل تبحثان عن بدائل للنفط الروسي

مع تضاؤل احتمالات استقرار العلاقات النفطية بين روسيا والدول الغربية، بدأت بعض الدول المستوردة الكبرى للنفط، وفي مقدمتها الهند والبرازيل، توسيع خياراتها خارج الفلك الروسي.

الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة، التي وصلت إلى 25% إضافية على الواردات من الهند – لتبلغ إجمالًا 50% على بعض السلع – أدّت إلى إعادة تقييم استراتيجية الطاقة الهندية. وتقول مصادر مطلعة إن هذا التحرك جاء كرد فعل على مواصلة نيودلهي شراء النفط الروسي رغم العقوبات، إلى جانب ما اعتُبر “برودًا دبلوماسيًا” من رئيس الوزراء ناريندرا مودي تجاه دور الرئيس الأميركي دونالد ترامب في جهود السلام بين الهند وباكستان.

في المقابل، أعلنت البرازيل، التي تخضع أيضًا لرسوم مماثلة، عن نيتها التحرك دبلوماسيًا لبناء معارضة عالمية ضد سياسة الرسوم الحمائية الأميركية. وتعمل الآن على تعزيز علاقاتها النفطية مع الهند كجزء من هذه الاستراتيجية.

مؤشرات على تحولات في تجارة النفط

المحلل بنيامين تانج، رئيس قسم السوائل السائبة في S&P Global Commodities at Sea، أوضح أن صادرات النفط البرازيلية إلى الهند ستخضع لمراقبة دقيقة خلال الأشهر المقبلة، في ظل تبدّل ديناميكيات السوق.

ووفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة البرازيلية، فإن صادرات البرازيل من النفط الخام إلى الهند ارتفعت بنسبة 75% على أساس سنوي، لتصل إلى 72 ألف برميل يوميًا مقارنة بـ41 ألف برميل في نفس الفترة من العام الماضي. هذا التحول يشير إلى تنامي تقارب تجاري بين الهند ومصافي نفط غير تابعة لأوبك، وهي إشارة إلى أن الهند تسعى للتقليل من اعتمادها على النفط الروسي تدريجياً.

في هذا السياق، قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، يرافقه وزير البترول هارديب سينغ بوري، بزيارة رسمية إلى البرازيل، حيث ناقشا توسيع استيراد النفط الخام واستكشاف فرص تعاون في مشاريع الاستكشاف والإنتاج في المياه العميقة.

سياسة الرسوم الأميركية تربك الحسابات الدولية

قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية أثارت ردود فعل قوية على المستويين السياسي والاقتصادي. ففي الهند، دفعت الرسوم الجديدة صناع القرار إلى إعادة النظر في كلفة الاعتماد على النفط الروسي، بينما تفكر نيودلهي في إعادة ترتيب أولوياتها التجارية بشكل عام، بما في ذلك التعامل مع واردات وسلع أخرى.

أما البرازيل، فتخطط لاتخاذ موقف عالمي، بحسب ما أكده الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي أعلن عزمه التواصل مع الهند لتوسيع نطاق التجارة الثنائية، بما في ذلك النفط والمنتجات الزراعية والبتروكيماويات، في محاولة للرد على سياسة ترامب التي طالت أيضًا منتجات مثل القهوة ولحوم الأبقار.

مستقبل السوق: جيوسياسة أم عوامل اقتصادية؟

يعود راسموسن ليؤكد أن سوق النفط قد يتحول تركيزه خلال الفترة القادمة من العوامل الجيوسياسية إلى العوامل الأساسية الأضعف مثل العرض والطلب، والقدرة الإنتاجية، والمخزونات.

ويقول: “في حال نجحت المفاوضات الأميركية الروسية في تهدئة الوضع الجيوسياسي، فإن دور العقوبات قد يتراجع تدريجياً كعامل مؤثر في أسعار السوق، مقابل عودة التركيز إلى مؤشرات الاقتصاد الكلي وتوازنات السوق الفعلية.”

مع ذلك، فإن حالة عدم اليقين السياسي تظل حاضرة، خصوصًا مع التوترات التجارية وقرارات الرسوم التي قد تعيد خلط الأوراق فجأة، كما حدث في الأشهر الماضية.

المرحلة المقبلة ستكون حاسمة في رسم معالم سوق النفط العالمي، ليس فقط من حيث الأسعار أو مستويات الإنتاج، بل من حيث التحالفات الجديدة التي تتكون في ظل تحولات اقتصادية وجيوسياسية سريعة.

فالهند والبرازيل، والعديد من الدول النامية، باتت تبحث عن استقلالية أكبر في قرارها الاقتصادي بعيدًا عن الضغوط الغربية، بينما تسعى واشنطن لاستخدام أدواتها الاقتصادية للضغط على خصومها ومكافأة حلفائها، في وقت يزداد فيه تعقيد المشهد العالمي.

في النهاية، يبدو أن النفط لم يعد مجرد سلعة اقتصادية، بل أصبح مرة أخرى ورقة تفاوض سياسية من العيار الثقيل.


زر الذهاب إلى الأعلى