الملحفة البوسعادية… بياض يستر الجسد ويحفظ ذاكرة المكان
في قلب مدينة بوسعادة، تلك الواحة العريقة الواقعة على ضفاف وادي بوسعادة جنوب الجزائر، لا يزال مشهد النساء وهنّ يرتدين الملحفة البيضاء يضفي على الأزقة القديمة هدوءًا خاصًا يشبه هدوء الرمال عند الغروب.
الملحفة البوسعادية ليست مجرد لباس، بل هي إرث، وهوية، وقطعة من التاريخ تتوارثها الأجيال كما تتوارث القصص والحكايات.
إعداد الصحفي/ زيان خارف
لباس الحشمة والوقار
تُعرف الملحفة في بوسعادة بأنها لباس محتشم يغطي جسم المرأة كاملًا ولا يُظهر سوى العينين، في رمز واضح للحياء والستر. ويأتي هذا الزي غالبًا باللون الأبيض الناصع الذي يعكس نقاء الصحراء ويُبرز روح البساطة والوقار في المجتمع الصحراوي.
ومع أنّ الزمن تغيّر، ظل حضور هذا اللباس قائمًا، خصوصًا عند النساء الكبيرات في السن، وفي الأعراس والمناسبات الدينية، حيث تشكّل الملحفة رمزًا للقيم العريقة التي لم تتغير رغم تبدّل تفاصيل الحياة.

من أين جاءت الملحفة؟… تاريخ ينساب عبر الزمن
يعود أصل الملحفة إلى قرون قديمة، حين كانت نساء الواحات في الجنوب الجزائري يرتدين ألبسة واسعة وخفيفة تقي من حرارة المناخ، وتمنح الحشمة المطلوبة داخل المجتمعات المحافظة.
ويرى بعض المؤرخين أن جذورها تعود إلى حقب عربية-هلالية استقرت في المنطقة خلال العهد الوسيط، حيث امتزجت التقاليد العربية مع طبيعة الصحراء.
ويؤكد كبار السن في بوسعادة أن الملحفة كانت الزي اليومي للمرأة منذ أواخر القرن التاسع عشر، بل كانت تُعدّ جزءًا من جهاز العروس، وترافق النساء في السفر، والزيارات، وحتى خلال أعمال الحياة اليومية.

الملحفة كما رآها الشعراء والرحّالة
الملحفة البوسعادية شدّت أنظار الرحّالة والأدباء الذين مرّوا بالصحراء الجزائرية ووقفوا عند جمال هذا اللباس ورمزيته.
فالرسام والكاتب الفرنسي أوجين فرومنتان، الذي عاش فترة طويلة في بوسعادة في القرن التاسع عشر، كتب في إحدى يومياته:
> “في بوسعادة تتحرك النساء كأطياف بيضاء، تمرّ بهدوء بين الجدران الطينية… في حضور يشبه حضور الملائكة في لوحاتي.”
وكتب عالم الاجتماع الفرنسي إميل ماسكري أثناء حديثه عن لباس المرأة الصحراوية:
> “زيّ المرأة هنا ليس مظهرًا فحسب، بل هو إعلان انتماء… انتماء إلى أرض لا تشيخ وإلى تقاليد تحفظ نفسها.”
أما الروائي الجزائري الناصر لخضر فأشار إلى أن:
“الملحفة ليست قماشًا، بل سردٌ صامت للذاكرة… حين ترتديها المرأة، ترتدي معها تاريخ بوسعادة.”
ويردّد أهل الصحراء أبياتًا شعبية تصف الملحفة بأنها:
> ملحفتك يا بنت الواحة
بياضك ستر ووشاحه
تمشين والهيبة تتبعك
والريح تحكي رواحه
هذه الشهادات الأدبية تُظهر أن الملحفة ليست مجرد لباس تقليدي، بل رمز ثقافي وفني سجله الأدب والرحّالة على حد سواء.

معاني أعمق من القماش
تحمل الملحفة البوسعادية معاني متجذرة في الوعي الجمعي للمنطقة:
الستر، الوفاء، الحياء، والرقي.
فالبياض رمز للنقاء والصفاء، وطريقة لفّ الملحفة حول الجسد تعكس قيم الانضباط والالتزام، بينما تغطية الجسد بالكامل تدل على احترام تفرضه المرأة لنفسها قبل غيرها.
وفي كثير من الأسر، كانت الفتاة لا ترتدي أول ملحفة إلا بعد بلوغ سن معيّن، في لحظة تُعتبر انتقالًا اجتماعيًا مهمًا نحو النضج والاحترام.
الملحفة اليوم… بين الأصالة والتجدد
رغم تطوّر الأزياء الحديثة، ما زالت الملحفة حاضرة بقوة في بوسعادة.
تظهر النساء بها خلال المواسم الدينية، الأعراس، الزيارات العائلية، والمهرجانات الثقافية. بل بدأت بعض المصمّمات الشابات في إعادة تصميمها بإضافات بسيطة، للحفاظ على هويتها مع جعلها أكثر ملاءمة لزمن اليوم.
وهكذا تواصل الملحفة البوسعادية الحفاظ على حضورها…
تمامًا كما تواصل بوسعادة الحفاظ على روحها القديمة، بين الأزقة الحجرية والمساجد التاريخية والنخيل الذي يظلّل المدينة منذ قرون.
